Saturday, February 10, 2007

رواية الدانوب الأحمر – الجزء التاسع والأربعون


هذه الرواية خيالية. جميع الشخصيات فيها من وحي خيال الكاتب ولكنها قد تحتوي على شخصيات حقيقية تم إدخالها بالرواية من أجل الحبكة الدرامية

"لم لا تكون كل الأيام كمثل هذا اليوم؟" تسأله إندرا ضاحكة وهي تهم بالجلوس أمام أحد أجهزة الكمبيوتر بقاعة مختبر الحاسبات بمختبرات الوكالة

يجلس سامي أمام الشاشة المجاورة لها، "أتعنين أن تكون كيوم الخميس هذا أم أنك تودين لو أن ينشغل طاقم المختبر بأعمالهم في كل الأيام ليتسنى للمتدربين أخذ إجازات من العمل المخبري؟" يجيبها متهكماً، فترد عليه بنظرة ساخرة تتصنع فيها الغضب

لقد قابلهم يولا حال وصولهم للمختبر صباحاً وأعلمهم بأنه وباقي الطاقم الفني سيكونون مشغولون بإعداد التقرير الفني الذي يستلزم تسليمه لإدارة الوكالة نهاية هذا الإسبوع، ولذلك فإن عملهم اليوم، ولربما لليومين المقبلين سيكون محدوداً مما سيترك لهم حرية التصرف لباقي اليوم، فآثرا أن يقوما بتصفح الإنترنت في مختبر الحاسبات قبل أن تزدحم بباقي المتدربين

كانت القاعة شبه ممتلئة، ولحسن حظيهما فقد وجدا مقعدين متجاورين شاغرين. كان مصطفى مشغولاً بتصفح إحدى المواقع المفضلة لديه، وجرياً على عادته فقد كان يطبع محتويات الموقع بإستخدام الطابعة المشتركة للقاعة

كان سامي يفكر بأحداث الأمس وما رآه في المختبر من قبل إندرا. هل يبادرها بالسؤال عما كانت تفعله؟ وما هو غرضها من تصوير دفاتر المختبر؟ وكيف سيبادرها بالسؤال عن ذلك أصلاً؟

كانت هذه الأفكار تدور في رأسه عندما دخل سوميرييه، أخصائي تقنيات المعلومات بالمختبرات للقاعة، متجهاً نحو لوحة الإعلانات. كان يبدو عليه الضيق والتأفف، وبكل ضيق علق إحدى الورقات على الحائط فوق الطابعة. الورقة على ما يبدو كانت تحتوي على رسماً بيانياً ، الرسم يدل على بيانات إستهلاك ورق الطباعة من قبل طاقم المختبر، وحصة الأسد كانت من قبل طابعة قاعة المتدربين

يتجه في طريقه للخروج من القاعة، إلا أنه توقف عند مصطفى وبادره بالحديث بجفاء، "بدلاً من أن تطبع ما تقرأه على الورق، لماذا لا تخزنه إليكترونياً - سيكون ذلك أكثر توفيراً للمختبر ولك". بدا على مصطفى الإحراج من حديث سوميرييه، والذي بدأ بالتوجه لباب القاعة، إلا أنه يقول شيء ما بالألمانية وبصوت منخفض، كإنما كان يكلم نفسه

عند سماعها لما قاله سوميرييه، لم تتمالك إندرا نفسها، فنظرت بإتجاهه وقالت "هوندفيغر!" بصوت مسموع

توقف سوميرييه عند سماعه لهذه الكلمات، وإستدار ناحية الصوت ليرى إندرا ترمقه بحدة. وقبل أن يتمالك نفسه وجد لسانه يسألها مذهولاً "شبركن زي دويتش؟" بصوت خافت بل ربما محرج

رفعت إندرا رأسها لترمقه بنظرة دونية من وراء أنفها، وبدون تردد "ڤيرپس دي!" ردت عليه بنبرة جافة قاسية

كانت لكلماتها أثر واضح على سوميرييه، فعلامات الحرج بدت واضحة على وجهه الذي أخذ في الإحمرار الشديد وكأنه يوشك على الإنفجار، إلا أنه يزيح بوجهه بعيداً عن نظرتها القاسية تجاهه وأيضاً بعيداً عن نظرات الجالسين بالقاعة. فتطلق إندرا زفرة حادة تجاهه ثم تستدير لتواجه شاشة الكمبيوتر وتعاود الطباعة على لوحة المفاتيح

كان لهذا الرد أثار على الجالسين في القاعة ممن تبادرت من بعضهم الإبتسامات والضحكات، فسارع سوميرييه بالخروج من القاعة محرجاً. ما أن خرج حتى ضج الحاضرين بالضحك على ما شاهدوه

"ماذا قال بالضبط؟ وماذا كان ردك عليه؟ لقد بدا عليه الحرج الكثير، إن لم يكن الذل!" يسألها مصطفى بعد أن قام من مكانه وإقترب منها ليسألها

تضحك إندرا، "لا عليك، ولكن لا أعتقد أننا سنواجه مشاكل من قبل صديقنا هذا مستقبلاً. حسناً، لننس ما قيل، فما دار من حديث بيننا لا يجب تكراره أمام ذوي الأخلاق المحترمة!" ترد إندرا

سرعان ما يعود الجميع لما كانوا يفعلونه قبل دخول سوميرييه للقاعة، فينحني سامي نحو إندرا ليسألها بهمس، "إنك لا تنفكين عن مفاجئتي بقدراتك المتعددة، فقد كنت أعلم أنك تتقنين الإنجليزية والروسية علاوة على لغتك الأم، والآن أكتشف إنك تتكلمين الألمانية كذلك!" تنظر إندرا ناحيته وهي تبتسم بمكر، "هناك العديد مما لازلت لا تعرفه عنى يا سامي" تغمز له وتضحك بخبث

يبتسم سامي وعقله يفكر لماذا لم تستخدم الألمانية في المحادثة طوال الأيام الماضية

تقطع إندرا حبل أفكاره قائلةً، "على أن أخرج من المبنى، فإني أود تدخين سيجارة، هل تود التواجد هنا مطولاً؟" تمد يدها لحقيبتها لتخرج علبة السجائر والولاعة ، إلا أنها وخلال بحثها داخل الحقيبة المكتنـزة بالأغراض المختلفة جرت بعض الأوراق مما أدى لتساقط بعض الحاجيات على الأرض

يسارع سامي لمساعدتها بجمع ما تساقط من داخل الحقيبة، إلا أنه لاحظ غرضين لم يكن يتوقع رؤيتهما

كانت هناك علبة رذاذ أسطوانية سوداء تعرف عليها سامي في الحال، إنه رذاذ الفلفل الحارق أو ما يسمى بالـ"ميس" والذي يستخدم في حالات الدفاع عن النفس

حمل مثل هذا العبوات شائع في كثير من البلدان، وكثير من النساء يستعن بالرذاذ لدرء خطر محاولات التهجم عليهن. أما الغرض الثاني فقد كان أكثر غرابة، كانت محفظة جلدية صغيرة جداً ويبدو عليها القدم، إلا أن الإسم كان واضحاً عليها، "مينوكس". ومينوكس هي الكاميرا الصغيرة والمعروفة أكثر بكاميرا التجسس. ماذا تفعل إندرا بمثل هذه الكاميرا؟ وإن كانت تتقن التصوير بها لماذا كانت تتصنع عدم المعرفة بفنون التصوير التقليدي في رحلاتهم بعطلة نهاية الأسبوع؟ يتساءل سامي

ينتهي من مناولتها للأغراض الساقطة من حقيبتها ، "أعتقد أني قد إنتهيت من مطالعتى للإنترنت. سآتي بقدح من القهوة وألحق بك" يجيبها

+++++

"ولكنني قلت لك من قبل ما سأفعله معكم إن لم تعطوني الرد مبكراً، وأعتقد أنك تعلم ما بمقدوري فعله معكم. فالطرف الآخر مستعد لدفع الكثير من أجل أن أتكلم وأفضي لهم بما أمتلكه من المعلومات، وعندها سأفضح عمليتكم هذه برمتها، ولا أعتقد أن هذا سيسر من يمول العملية بالأساس" يحدثه

"أعلم ذلك جيداً ولا حاجة لتذكيري به، وهم أيضاً ليسوا بالأناس الذين يتم التعامل معهم بهذه الطريقة. وعلى العموم تعلم أنني مجرد حلقة وصل بينك وبين من يديرونها. زميلك الآخر ليس بمثلك، ولهذا فهم مترددون بالرد على طلبك منفرداً ..." يرد

"وما شأني بما يطلبه غيري! لقد أفهمتك بمطالبي جيداً، ولا أعتقد أنك ستخيفني بأني سأفقد وظيفتي مثلاً. فالطرف الآخر بالغ الكرم، وخصوصاً في مثل هذا الوقت" يجيبه

"وأنا أذكرك مرة أخرى بأني مجرد مندوب في هذه العملية، وما على الرسول إلا البلاغ وها أنذا أنقل لك الرسالة. أحدهم سيتصل بك مباشرة ليتفاهم معك ومناقشة شروطك الجديدة" يكمل

"وكيف ذلك؟ سيتصل بي مثلا ..." يسأله

" لا أعلم. كل ما أعرفه أنه علي إخبارك بأنه سيتصل بك بشكل ما سريعاً، وسيعرف نفسه لك بإستخدام عبارة تحتوي على "شلالات كريميل"، فإن سمعتها فهذا يعني أن من يحدثك هو مرسل مباشرة من قبل مدير العملية". يختتم حديثة مع العميل "الأحمر" بإبلاغه رسالة أناتولي، والتي أوصاه بأن يوصلها له البارحة

+++++

بنهاية اليوم، يتوجه سامي وإندرا معاً لمقر الوكالة بمجمع وكالات الأمم المتحدة والمعروف بأونو سيتي ليتسلما بطاقتيهما البنكية كما أوصيا من قبل موظف البنك في يومهما الأول في فيينا في الأسبوع الفائت

في أيام الخميس تفتح الأسواق أبوابها حتى ساعة متأخرة، كما تظل البنوك مفتوحة حتى الساعة الخامسة والنصف مساءاً.

سرعان ما يتسلما البطاقات والأرقام السرية لإستخدامها، فيتوجهان لماكينة الصرف الآلي خارج البنك لتجربة السحب منها. يترك سامي المجال لإندرا لتجرب بطاقتها بينما ينتظرها وهو متكىء على الأفريز الذي يكشف فناء الروتندا من الدور الأول، فيقف ويتأمل أعلام دول العالم المعلقة بالسقف. سرعان ماتنتهي إندرا ليأتي دوره في تجربة بطاقته

حالما ينتهي يتجه لإندرا والتي كانت تنتظره عند المصعد

"حسناً، لقد إنتهينا من البنك، واليوم مفتوح لنا لنقوم بالتسوق. فما رأيك بأن نتجه لمجمع الكاغران، فهو قريب من هنا ونستطيع أن نتناول وجبة سريعة هناك" تحدثه ويهز رأسه بالإيجاب

يخرجان من الأونو سيتي ليستقلا القطار من كايزرمولن والمتجه شمالاً نحو محطة الكاغران، وهي أخر محطة على خط U1

على الرغم من كبر حجم المجمع وإزدحامه، إلا أنه غير منظم مثل المجمع بالميلينيوم سيتي. يضحك سامي وهو يشرح لإندرا عن المجمعات التسوقية في الكويت وعادات الشباب بالتسكع بها

يسلكان طريق الجسر المعلق والمغلق، والذي كان يوصل السوق بالجزء الذي تقع به قاعات السينما حيث المطاعم والمقاهي وهذا الجسر ذكر سامي بجسر بالمارينا مول في الكويت إلا أن هذا الجسر وعلى الرغم من قصره كان به صالون لتصفيف الشعر، وبدا الأمر مثيراً لسامي حيث أن المساحات مستغلة لأقصى درجه ، وقد قرر سامي وإندرا تجربة مطعم المقهى العربي الواقع هناك

كان المقهى الصغير شبه خالي من الزبائن بإستثناء إثنين جالسان في الطرف الآخر يدخن أحدهما الشيشة. قام سامي بتقديم الطلبات وجلسا يتناولان الحديث وهما ينتظران الوجبات على إحدى الطاولات الخارجية القريبة من السلم المتحرك، والذي كان يوصل لشاشات السينما بالأعلى

كان سامي يتحدث معها وعقله يود سؤالها عن ما شهده بالأمس بالمختبر، إلا أنه كان يبحث عن فرصة مناسبة لذلك. وبينما هم بوسط الحديث توميء إليه إندرا نحو السلم المتحرك، ليلتفت ويشاهد وجهاً مألوفاً. فيضحك ويلتفت نحوها قائلاً، "ماذا يفعل صاحبنا هذا هنا؟" يسأل سامي مبتسماً "لربما جاء ليشاهد فيلم كوميدي ينسيه متاعب العمل والـ..." ترد عليه ضاحكة، وقبل أن تكمل يأتي عامل المقهى بأطباق الوجبات والمشروبات، فيبدآن بتناول الطعام

"بما أن اليوم مناسب للتسوق، أعتقد بأني سأبحث عن محل لأشتري منه زي مناسب لحفلة الوكالة الراقصة". تذكره إندرا بالحفلة التي ستقام مساء السبت. يتذكر سامي ذلك، فبالنسبة إليه هو مستعد لذلك

"آه، فعلاً، كيف لي أن أنسى ذلك. ولا تنس مساء الخميس القادم، أي بعد أسبوع من اليوم، فإني سأصطحبك لحفلة سفارة دولة الكويت بمناسبة العيد الوطني لبلادي" يرد عليها

+++++

يجلس على طاولته بمقهى الإنترنت. إنه يفضل التواجد هنا بهذا الوقت المبكر ليتراسل إليكترونياً مع الأطراف الذين كان يساوم معهم للإدلاء لهم بما بجعبته من معلومات تخص سير العمل. ما سمعه اليوم لم يكن ما توقع سماعه، فقد كان يود لو أن الأمر قد إنتهى بأن يبلغه زميله المندوب من مديري العملية بالموافقة على طلبه، إلا أنه قد أخبر بأنه سيتم الإتصال به من قبل أحدهم للحديث بهذا الموضوع

أيظن هؤلاء الحمقى بأنهم سيرهبوني مثلا؟ يتضحك مع نفسه وهو يحتسى كوب القهوة، بينما يبدأ بالإستعداد لإرسال رسالة للطرف الآخر، فهو لازال يوازن بين الخيارات المختلفة التي تواجدت أمامه

إن نَفَسي طويل، ولن أتوقف حتى أتسلم أكبر قدر من المال مقابل ما أعرف. يحدث نفسه

بينما كان يفكر بالمال والإثراء غير المشروع، لم يدر في ذهنه أن هناك من كان يراقبه في الناحية الأخرى من المقهى. فعلى طاولة بمقربة من النافذة جلس إثنان كانا يلحقانه خلسة عند الدخول والآن يتبادلان الحديث همساً

"هذا هو الجشع الذي وصلت به الوقاحة أن يطلب المزيد من المال"، يتحدث أناتولي بهدوء

"يبدو أنه يأتي لهنا ليبعث الرسائل الإلكترونية من أماكن عامة تحاشياً لتتبع عنوانه الإليكتروني من مكان عمله أو سكنه. جهازه مماثل فعلاً للجهاز البديل ولا أرى مشكلة في إستبداله - هذا إن كنت لا تزال تصر على المضي قدما في ما ..." فيرد عليه ڤاسيلي

يقاطعه أناتولي، "هذا ما سيحدث فعلاً! إنها الآن مسألة وقت فقط، فلن نسمح لأحداً أن يملي شروطه علينا، ويغير بالخطط كيفما يشاء هو. إن تركنا الحبل على الغارب، سرعان ما سيحذو حذه آخرون وبذلك نكون قتحنا على أنفسنا أبواب جهنم" يرد رداً جافاً

"أتعني أننا سننتهي من الموضوع الليلة؟" يسألة ڤاسيلي على إستحياء

يضحك أناتولي، ويرد "لا تستبق الأمر يا عزيزي" والرد مملوء بمكر

إنتهى الجزء التاسع والأربعون

ويتبع في الجزء القادم

0 Comments:

Post a Comment

<< Home